توظيف الأعمال الطوعيّة في التّنمية الشّاملة
أ.د.عبدالرزاق عبدالجليل العيسى
تعايش كثير من دول العالم في أنحاء المعمورة بعض المفاهيم الإنسانيّة التي كانت سائدة في العراق منذ أزمان بعيدة،وقد عايشت بعضاً منها في الخمسينات والسّتينات من القرن الماضي ،مثل ظاهرة العمل التّطوعيّ في صفوف الشّباب الشّائعة في مجتمعات الدّول المتقدّمة، فمنها ما يكون ابتغاء المساعدة لإحدى شرائح المجتمع ،مثل كبار السّن أو ذوي الاحتياجات الخاصة أو المصابين بأمراض فتاكة،مثل السّرطان وغيره ، ومنها الآخر بغية اكتساب الخبرة التّطوعيّة في المجالات المهنيّة أو الفنيّة. واللافت للنّظر اليوم أنّ بعض الجامعات تشترط لقبول الطّلبة في بعض التّخصصات أن تكون لديهم خدمة إنسانيّة تطوعيّة غير مدفوعة الثّمن بوصفها مؤشّراً إيجابيّاً يشير بوضوح إلى مهنيّة وأخلاقيّة المتقدّم إضافة إلى المؤشرات التّربويّة والعلميّة التي تظهر بوساطة تلك الممارسات . وفيما مضى كان ثمّة في مجتمعنا العراقيّ ما يشبه ذلك العمل التّطوعيّ، مثل مبدأ ( العونة )،وهي عبارة عن تعاون مجموعة من الأشخاص لإنجاز عمل عام أو خاص لأحدهم , فكانوا على سبيل المثال يتعاونون في قطاف ثمار الأشجار لحقل أحدهم إذا كان عاجزاً أو مسنّاً أو مريضاً مقعداً ، أو في مساعدة آخر لشتل نبات الرّز أو أيّ عمل بحاجه للسّرعة بالإنجاز، إذا كان البطء لا يأتي بالنتيجة المطلوبة , ولذلك يتكاتف هؤلاء الأشخاص للنّهوض بمجتمعاتهم.وقد أُعتمد منذ وقت طويل مصطلح اقتصادي يسمّى ( رأس المال الاجتماعيّ ) بوصفه إجراءً وفعلاً له أثر واضح وكبير في ازدهار المجتمعات وتقدّمها،فضلاً عمّا ِأشرنا إليه من مبادرات التّعاون وشيوع ثقافته عند الأثرياء بمختلف مستوياتهم في العديد من دول العالم بشتّى مستوياتها المتقدّمة والنّامية على حدٍ سواء ,وهو – لاشكّ- أمر له أثر فاعل في إعمار مجتمعاتهم والمساهمة مع الدّولة بأساليب متنوعة في بنائها عبر المشاركة بجزء من المال في تكلفة الخدمات والبنى التّحتيّة، أو من خلال التّبرع لبناء المدارس والجامعات أو المكتبات العامة والمراكز الصّحيّة أو أجنحة طبيّة في داخل المستشفيات أو تطويرها أو إنشاء مراكز إيواء المسنين و ذوي الاحتياجات الخاصة، أو إقامة دور للأيتام ، أو التبرّع لمشاريع بحثيّة علميّة تخدم المجتمع ، أو التبرّع المباشر لخزينة الدّولة على شكل مردود ماليّ يُسهم في رفد الموازنة ، لأجل ضمان قوة اقتصاد ذلك البلد لضمان تقدّم مجتمعه وازدهاره ونموه وانتعاشه . بالإضافة إلى ذلك فإنّ الكثير من اقتصاديّات دول العالم تعتمد على الضّرائب المستوفاة من مواطنيها،وفي مقدمتهم أصحاب رؤوس الأموال، فيما تُعدّ عملية التهّرب الضّريبي وعدم الإفصاح عن المردود الماليّ السّنويّ أو ما يُسمى بكشف المصالح الماليّة من الحالات الجُرميّة التي يُعاقب عليها بالسّجن من طرف القانون،والوصوف بالسّلوك المعيب والازدراء من طرف المجتمع. ومن هنا نسمح لأنفسنا بإلقاء سؤال ملحّ في هذا الصّدد،وهو : هل أثرياؤنا بمستوى هذا المسؤوليّة ؟ أم أنّهم خلعوا حالة الفقر التي كانت ثوب أكثرهم ما قبل عام 2003،وارتدوا ثوب البخل وهم لا يعلمون؟ بل الأتعس من هذا وذاك أنّ بعضهم تاجر، وجمع الأموال،واغتنى من خلال ادعائه القيام بالأعمال الخيريّة عندما فتح مكاتب لمنظّمات وجمعيات أو مؤسّسات خارج العراق لجمع التّبرعات للمعوزين والمحتاجين والأرامل والأيتام أو ذوي الاحتياجات الخاصّة في داخل العراق، وقد رصدت أسماء لامعة وممتلئة ماديّاً تعمل تحت تلك المسمّيات خارج العراق،و لا وجود لأثرها على الإطلاق داخل العراق . ولا ريب أنّ ثمّة إيجابيّات اقتصاديّة واجتماعيّة و تنمويّة كثيرة لو أُشيعت ثقافة العمل التّطوعيّ على مستوى مؤسّسات ضخمة أو شركات فاعلة أو حتى على مستوى الأفراد لما يترّتب عليها من أثر أخلاقيّ واجتماعيّ. وهنا ينبغي الأخذ بيد بعض المسؤولين - رغم قلتهم – لإقدامهم على التبرّع بجزء من رواتبهم لصالح بعض المعوزين، وآخرين قاموا بفتح مدارس مجانيّة لتأهيل الأطفال المحتاجين للرّعاية الخاصّة , فهم بذلك صنعوا القدوة الحسنه لغيرهم .وهذا التبرّع لبناء المجتمع وتطوّره لا بدّ أن يكون رسالة الأثرياء وأصحاب رأس المال في المجتمع للمساهمة في تقديم العون لمجتمعاتهم نوعاً من أنواع التّكامل الاجتماعيّ؛إذ إنّنا اليوم في حاجة ماسّة للأواصر القوية والوشائج المتينة والتّآلف المجتمعيّ، فهي عامل مهم في توحيد المجتمع وتكامله.وفي هذا الشّأن لا أخفي إعجابي العميق بما استمعت إليه أو قرأته من آراء سمو الأمير الحسن بن طلال ونظرياته التي يطرحها في الملتقيات أو الدّوريات التي أكدّ فيها أنّه لا يُقبل من الأثرياء أن يكونوا بخلاء على مجتمعاتهم، بل يجب تخصيص بعض من أموالهم للمؤسّسات البحثيّة والتّنمويّة والإنّسانيّة ، فضلاً عن تبنّيه لأفكار ناضجة واستراتيجيّة تستهدف الوصول إلى التّكامل العربيّ والإسلاميّ عبر مجموعة الأهداف التي يطمح لها منتدى الفكر العربيّ الذي يترأسه. وما احتضان النّشاطات التّطوعيّة الشّبابيّة وتحفيزها من قبل المؤسّسات التّربويّة والتّعليميّة والثّقافيّة إلا بمثابة الحافز لاقتداء الأثرياء بها والمشاركة بأموالهم في مشاريع التّنمية الشّاملة بشتّى قطاعاتها وفروعها ، والله من وراء القصد.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.