Get Adobe Flash player

عسكرة الدولة عامل مهم في هجرة الكفاءات الفكرية

 

حاوره- إبراهيم السواعير - في 23 الجاري تُتوّج بغداد عاصمةً للثقافة العربية، في احتفال تستعيد فيه المدينة التي قُدّر لها أن تحمل فجر التاريخ وشمس الحضارة، شيئاً من الألق. يحمل كلّ عراقي وعربي لبغداد صورة العروس الباهية؛ بين شقيقاتها اللاتي احتفلن عواصم للدول العربية.. عمان، القدس، دمشق، المنامة، الخرطوم، وكانت بغداد استحقت اللقب من قبل غير أنها اعتذرت بسببٍ من ظروفها التي يدعو لها الجميع بالاستقرار.
التالي حوارٌ مع المستشار الثقافي العراقي في الأردن الأستاذ الدكتور عبدالرزاق عبدالجليل العيسى؛ وهو من الخبرة الأكاديمية والثقافية ما يؤهّله لأن ينظّر ويقترح ما يجعل المشروع الثقافي بالفعل حاضناً لكلّ هذه المنطلقات.
هجرة العقول العراقية والكفاءات التعليمية،.. أمرٌ، ومع أنّه يضيف ويثري العرب ودول العالم، إلا أنّه يشكّل همّاً حقيقياً للبلد الذي أنتج هذه العقول؛ ولك رأيٌ في إخفاقات التعليم العالي بين (عسكرة الدولة) وهجرة العقول. ضعنا بهذا الجو.
دعني أقرر أنَّ كلّ جامعةٍ مرموقةٍ إنما يميزها مستواها في التعليم ومخرجها الجيّد وذلك النتاج البحثي، وما تفيض به على مجتمعها الإنسانيّ في ثقافته وسلوكه المبنيّ على هذه الثقافة، وفي تخريج طاقاتٍ تسعى إلى التنمية الشاملة، بكلّ ما فيها من متغيرات.
وفي العراق، فإنّ ثلاث كلياتٍ في عالمنا الشرقي العربي الإسلامي كانت الأفضل في العقد الأول من القرن المنقضي، هي دار المعلمين العالية والحقوق والطب. في خمسينات القرن الماضي كانت جامعة بغداد هي سوربون العراق وهي كامبردج هذا البلد. جامعة، على الرغم من حداثتها، تفوّقت على جامعة فؤاد الأول أو جامعة القاهرة لاحقاً، مثلما تحدّت جامعة بيروت الأميركية. كانت هذه الجامعة، جامعة بغداد، من بين ثمانية عشر جامعة عربياً، بالرغم من التطور الملحوظ على أعداد الجامعات الرسمية والأهلية في العراق وغيره من البلدان العربية.

المواكبة والانقطاع
لكنّي، أجد أنّ من التراكمات السياسيّة والحروب العشوائية وعسكرة الدولة في ثلاث عقود، ما كان سبباً رئيساً في التخلف الذي يعانيه التعليم العالي. وفي هذا يمكن أن أذكر شيوع ظاهرة الاستثناءات في القبول في ظلّ الكفاءة المغيّبة، وانتشار الفئوية في اقتصار البعثات والمنح لفئات قبلية أو قومية أو طائفية، أيضاً، بتحييد المؤهل أو الكفاءة. يجيء فوق ذلك ما أسميه (عسكرة الدولة)؛ وهو ما فضّل الطلبة لأجله الرسوب على التخرج خوفاً من الانخراط في الخدمة العسكرية، أضف إلى ذلك أنّ عقولاً وأعداداً من العلماء والأساتذة بحثت عن الحياة الكريمة في بلدان المهجر. هذه العزلة سببت لنا الانقطاع عن العالم في فترات ماضية من تاريخ العراق، فلا تواصل مع المؤسسات العلمية في العالم أو المؤتمرات المهمة العالمية، وهو ما صاحبه في الثمانينات من القرن الماضي كل تلك القطيعة بين مؤسسات التعليم العالي والعالم الخارجي. أذكر، أيضاً، المعاناة من نقص الموارد المالية في شراء المستلزمات من الكتب والمختبرات.

تسييس التعليم
النقطة الصعبة هي (تسييس التعليم)؛ بتخصيص الثقافة العامة منهاجاً لخدمة الحزبية والمراقبة الأمنية التي تعكّر صفو الدرس الأكاديمي؛ فلم تتوفر خدمة الإنترنت، على سبيل المثال، حتى سنة ألفين وثلاثة، في وقتٍ كان استعمال الحاسوب فقط محصوراً في دوائر الدولة فقط. ها كلّه أخّر كثيراً من خطوات التعليم العالي، فلم يعد معظمها ينافس أو يظهر في التسلسلات العالمية.
ذلك كان للأسف، في الوقت الذي كانت فيه برامج التعليم العراقية في عشرينات القرن الماضي ذات أسس وقواعد شبيهة بتلك المعتمدة في برامج التعليم البريطانية؛ حيث الابتعاث في التعليم، والتواصل العلمي والانفتاح في طرائق التدريس والمناهج، على وفق الكفاءة.
من هنا علينا أن ننطلق في التعليم العالي من فلسفة نعتمد فيها الخطة الاستراتيجية وفق مسار التطور والتحديث، على ضوء الفلسفة العامة للدولة وحاجة المجتمع في وعيه وثقافته المواتية؛ فالوعي التربوي والثقافي ضرورة والالتزام بالقوانين والضوابط والنظام في المجتمع أسبابٌ مهمّة جداً في فلسفةٍ سليمة للتعليم.

الفلسفة التربوية
هذا التعليم، يجب أن نتناوله بالإصلاح في مراحله الأساسية لننطلق نحو التخطيط في التعليم الجامعي، مؤمنين بالعلاقة الوطيدة بين العلوم الطبيعية الصرفة والعلوم التطبيقية والإنسانية، وفي ذلك فلسفة تعمّق الوعي بالمبادئ الجامعة للعلوم وربطها بالوعي الاجتماعي والثقيف المستمر على احترام جميع التخصصات العلمية والإنسانية وإيلاء الحداثة والتجديد في ذلك أهميةً كبيرة.
أحذّر من الفجوة بين العلوم الصرفة والإنسانية؛ لما لذلك من خطر في إساءة توجيه العلم، وهو ما تنعكس نتائجه السلبية على المجتمع؛ فنلغي إنسانيته، في حين أنّ الأَوْلى هو أن يكون التعليم العالي متميزاً بفلسفته التربوية الواعية في ربط الطبيعي بالإنساني، أو التقريري بالمعياري، أو العلمي بالأخلاقي، كما نقول.
نحن نؤكّد أنّ أهم أسباب التراجع في البيئة العراقية هو غياب الوعي والانسجام بين الرؤيا العلمية والأخلاقية، ولنا في جامعة الكوفة مثالٌ في الاختيار الدقيق لمسؤولية عمادتها وعناصرها ذات الكفاءة وكادرها التربوي، نحو جيلٍ هو مستقبل العراق.
العالمية.. ومعاصرة النظام التعليمي والاستراتيجية الواعية.. واقتصاد المعرفة المرتبط بتكنولوجيا المعلومات وتوظيف الملكات والمهارات والأدوات التخصصية والفكرية والحضارية وجودة المدخلات والمخرجات والاهتمام بحاجة السوق والمجتمع وتطوير المناهج واستحداث الكليات واستقلال الجامعة،.. أمورٌ على قدر كبير من الأهمية في هذا المجال.
الحفاوة ببغداد عاصمةً للثقافة العربية 2013 لا بدّ تثير لدى العراقيّ شجوناً ووقفات. ماذا يقول الدكتور العيسى من منظور الجامعة العراقية ومؤسسات التعليم في الاشتراك ببرنامج المناسبة أو لعب الدور الأكبر في إنجاح عاصمة الثقافة؟!
عراقة بغداد تنشأ من المدرسة الأولى في العراق، وهي المدرسة المستنصرية، وتعلم أنت أنّ الثقافة ورصانة المجتمع إنما يكون مصدرها في مؤسسات التعليم، في الجامعة والمعهد والمدرسة والتربية بشكل عام. هذه الأركان اعتمدت عليها بغداد، مع أنّها نالها ما نالها من القلق في فترات معينة يعلمها الجميع.

النخب المثقفة
نحن نتحدث عن بغداد ما بعد عام 1920، وقد كانت هذه العاصمة العلمية مهمة في نهضتها وثورتها العلمية، حيث الحضارة العلمية في مدرسة القانون 1909 التي أصبحت في ما بعد كلية القانون، وحيث كلية الطب عام 1927 ثم الهندسة والتربية وهكذا. لاحظ أنّ حقبة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي شهدت نهضةً علميةً وثقافةً مزدهرة، في السلوك المنطلق من الثقافة، والنخب المثقفة والفنانين والأدباء والأطباء والمهندسين والكفاءات.
لكنّ كثيرين رأوا صراعاً وكبوةً وقهراً للمثقفين والعلماء كان عام 1963، لكنّي أرى أنّ عام 1958 كان سابقاً وخطيراً في (عسكرة الدولة)؛ وذلك بإزاء النظام الملكي قبل ذلك.
الطائفية والتحزب والقمع والطائفة كانت أسباباً أدت إلى هجرة الكفاءات والعقول والخوف، زد على ذلك حرب العراق وإيران في الثمانينات من القرن الماضي، والحصار الذي ظهر، وما سببه ذلك من انهيار مؤسسات وهروب إبداعات حقيقية من العراق. أذكر مقولة الشيخ زايد في أنّ دبي ستشابه بغداد، في السبعينات من القرن الماضي، غير أنّ انهياراً لبغداد وظهوراً كان لدبي.

إعمار التراث
اليوم، نأمل بجهود الخيرين في العراق وخارجه أن ننهض بالعراق؛ فهنالك عوز في الكفاءات لتخطيط الاستراتيجيات وهنالك دعوة حقيقية للتشارك وللتحاب ما بين كلّ الطوائف ومؤسسات المجتمع المدني لإعادة هيكلة البنى التحتية، وذلك ليس معناه فقط في المباني، بل في عقلية الطالب وثقافته وإشاعة روح التسامح والتنمية الشاملة لديه، وأعرب عن أسفي للبنى التحتية في التراث، لكنّ خلية نحل هناك تعمل لإعادتها وترميمها، وهي معالم يجب أن تظل شامخة على الدوام. هذه المباني كانت تجمع المثقفين وأصحاب الفكر، إضافةً للمكتبات، ومع ذلك، فإنّ ألماً تنطوي عليه نفس كلّ غيور ووطني من أجل الإعمار. علينا أن ننطلق من ثقافة الطفل، في احترامه الآخر ومحبته الفن والقراءة والموسيقا والكتابة؛ فنؤلف بين فصائل المجتمع.
يا صديقي، حتى الحزن، في كثير من الأحيان يجمع الفرقاء لأنهم في حالة واحدة أو مركب وحد. نحن نرتب للفرح في حفل موسيقي يجمع ولا يفرق، وفي نشاطات أدبية، على سبيل المثال، وفي متحف كبير يؤمّه الجميع.
لكن، ألا ترى معي أن الثقافة ليست فقط عبارة عن فنون وموسيقا وشعر، إنما هي سلوك ينتهي بأفكار علمية واقعية، فمن أركان تقدم المجتمعات أنها تتوافر على التربية والتعليم في جو من التخطيط المدروس.

الخطاب الثقافي
ما الخطاب الثقافي الذي تتبناه في ظلّ طيف متنوع وجيل جديد ومؤسسات تسعى إلى الفاعلية في العراق؟!
أتحدث عن الطفل هدفاً ثقافياً في إعادة هيكلة المؤسسة التعليمية وترتيب شؤونها؛ في اختيار المعلم الذي يطمح إلى المستقبل المزهر في التربية والتعليم والثقافة. وهنا فإنّي أنادي باستراتيجية بين وزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم. استراتيجية تأخذ في اعتبارها حتى الفضائيات التي تنقل الخطاب داخل العراق وخارجه، ولا أريد في الواقع أن أطيل في مزايا المعلم الواعي والجيل الواعي والاحتكام إلى الضمير الوطني في تنشئة الجيل بعيداً عن كلّ الصراعات والأخطار التي تذبح شخصية الطفل وتؤثر في نفسيته. في دول الغرب لا يعتمدون الأستاذ المنغلق أو صاحب الأفق الضيق لتدريس الأبناء حتى لو كان يحمل أعظم الشهادات.
أركز في هذا المجال على أنه لا توجد كثيراً في مؤسساتنا التربوية نشاطات ثقافية تنمّي عملية التفكير؛ فكثير من أبنائنا لديهم مبادرات، فلا بدّ من خطط استراتيجية للنهوض بهذا الفعل الثقافي في المواهب الفنية والأدبية والمعرفية والعلمية.

العائلة العراقية
الانهيار الذي يحصل أو الشرخ الذي نراه ليس في المباني وإنما في عمق العائلة العراقية، إن لم ننتبه إليها أسرةً جديرةً بالاحترام. علاوةً على أهمية النشاطات الثقافية، هنالك الكفاءات الموجودة خارج العراق، وهي كفاءات يجب أن يستفيد منها العراق وتمنحه خبرتها في سبيل علوّ شأنه وارتفاع بنيانه، في الثمانينات والتسعينات، كما قلتُ، تراجعت الكفاءات العراقية، غير أنني وأنا في الأردن لأشهر قليلة رأيت عراقيين يشار إليهم بالبنان ووجدت من المواهب ما يضع أصحابها موضع الاحترام، وهي كفاءات ومواهب في كلّ مجالات الحياة، في الأدب والفن والاقتصاد والحياة العلمية الأكاديمية والحياة العامة.
نحن نسعى لاستقطاب هذه الكفاءات واستثمارها في العراق، والطلب منها أن تمد يد العون في ظل الحاجة الوطنية العراقية إلى مثل هؤلاء. يمكن التنسيق ما بيننا وبين جامعات عربية، ومن بينها الأردن، ولدينا نسب للدارسين في الأردن والمكتبة الافتراضية ودراسة لمزايا ذلك على الجميع.
الجامعة الأردنية وغيرها من المؤسسات مهمة للتنسيق، ليعود الأردن والعراق إلى ذلك الانسجام الأول، وهذا يستلزم التفهم ما بين حكومتي الأردن والعراق. لاحظ أنّ مد أنبوب النفط إنما هو الحبل السري بين البلدين. نؤكد على إعادة الثقافة العراقية وإعادة المؤسسات العلمية العراقية، كما هي جامعة المستنصرية ومدرسة الكوفة كما هي مدرسة الزيتونة ومدارس الشمال الإفريقي.
التباكي والعمل
يرى مثقفون أن التباكي على الأوطان إنّما يعمل باتجاهين: معطل للحياة، ومحفّزٌ لأن تتغير!.. ماذا ترى؟!
تتحدث عن نقطة جداً مهمة، وهي التباكي، لكنّ نقيضها التفاخر، وفي الحالتين نحن أمام أمرين متطرفين، إن لم تكن هنالك خطوة إيجابية في هذا المسار الذي يملي علينا التحدي والعمل. لا بدّ أن يكون عنصر الجودة متوافراً وإسقاط الخطط السلوكية التي تكلمتُ عنها على السلوك الإنسان للناس، في مؤسساتهم وفي مدارسهم، في جامعاتهم، في منتدياتهم الثقافية، في النقاش الموضوعي الذي لا يرمي إلى هدم الأوطان وذبح الجهود أو تقزيم هذا الجهود. الجميع يجب أن يشعر أنّه أمام تحدٍ حقيقي في الإعلام الفضائي على سبيل المثال، ولعلك تعلم أنّ الأمور لا يمكن أن تحلّ هكذا بعصا سحرية، وإنّما تحتاج إلى وعي وثقافة وسلوك ينطلق من هذه الثقافة التي تضع مصلحة العراق فوق كلّ اعتبار.
لا بدّ من خطوات جريئة في هذا الأمر. لا نريد انتكاسات تذهب بهذه الخطط أو تعيدها إلى الوراء. هنالك ساعد أيمن للشعب العراقي يتمثل في المؤسسات الحكومية الأردنية وغير الحكومية،.. الجامعات، التدريب، التأهيل، الخبرات في الزراعة والصناعة والتربية والصحة، فتكون اللغة مشتركة وتسويق الأفكار البناءة أمراً يعتمد علينا جميعاً في كل مواقعنا، بالاستناد إلى القانون، القانون هو الضابط المهم لكل الحيثيّات والانطلاقات.
آمل بخطوات جادة لإعادة بناء الثقافة العراقية البناء العلمي غير العشوائي، البناء المنظم.

النجف الإسلامية
أذكر أنني دعوت، حينما كانت مدينة النجف في العراق، عاصمةً للثقافة الإسلامية، وقد كنتُ عضواً في لجان هذه المناسبة، إلى دور حقيقي للجامعات هناك، غير أنني لما وجدتُ أنّ هذا الدور استبعد انسحبتُ، وقد كانت 14 لجنة عاملة آنذاك. تحدثت مع محافظ بغداد وأكّدتُ ضرورة الاعتماد على الجامعات العراقية لإبراز هذا العنصر الثقافي العلمي المهم.
أنا آمل أن تكتمل عناصر ترشيح المدن لمناسبات كبيرة من مثل هذه المناسبات الثقافية، لدينا عناصر قوية في بغداد والموصل والنجف في آثارها وتاريخها العريق. ولذك فإنّ أيّ مشروع كهذا علينا أن نشرك فيه كل الخبرات الأكاديمية والمجتمعية، في الجامعات والمتقاعدين الذين حملوا على أكتافهم هذا الهم سنوات طويلة بكل ما فيه من خبرة وصبر.
آمل، أيضاً، أن ينجح مشروع بغداد عاصمةً للثقافة العربية وأن يستعد لضمّ النخب الكثيرة العربية والعالمية، وحالياً هنالك مؤشرات مهمة لجمع النخب والاستفادة منها، وهي تفد إلى بغداد، ففي 23/3 هنالك تهيئة مشكورة بكل ما فيها من انسجام وتناغم ودور كبير لوزارة التعليم العالي ولوزارة الثقافة.
نحن علينا ألا نقف عند التغني بالأمجاد؛ بل نقبل على العمل الجاد لاستثمار كلّ هذه الحقب التاريخية المهمة لنعيد هذا التوهج الثقافي الموضوعي لبغداد ولكل مدن العراق التي تحمل هذا التاريخ الكبير.

التنوع والانسجام
كيف يفلح النموذج الثقافي في لمّ كلّ هذا التنوع في العراق؛ بلداً ذا أقاليم ومحافظات تنشد الدولة لها الانسجام والتناغم في ظلّ عاصمة الثقافة؛ وقبل هذا في ظلّ دولة القانون والمؤسسات؟!
في الواقع نسعى إلى تأكيد القيمة القرائية لدى الطفل العراقي بوصفه عتاد المستقبل كما أشرت، وفي مشروع (اقرأ)، عرضنا أنواعاً من الكتب وشاركت المكتبات الأهلية والجمعيات، فكان شارع أبو نؤاس شارعاً ثقافياً بامتياز، نريد أن يتوهج العراق، ليس فقط في بغداد، وإنما في أجزائه وأقاليمه ومحافظاته ومدنه. هنالك تسابق حقيقي واستثمار للوقت في عقد المؤتمرات والندوات والأمسيات وفي كلّ ذلك فكر ومنطلق ثقافي حقيقي معبّر، لدينا جمعيات مجتمع مدني ذات حراك متسارع في رصد القوة والضعف في الإنجاز، لجمع ما يمكن جمعه من العناصر والكوادر، ومن ثمّ تقام حلقات النقاش وتبادل الرأي للخروج من هذه المشكلة أو تلك وتصحيح المسار.

تسويق الطائفية
دعني أقل إنّ العملية الثقافية مع أنها تسير وفق برنامجها الموضوعي التلقائي، إلا أننا لا ننكر أن هنالك من الأفكار ما يدعو إلى الهدم والضعف والتسويق الجاهل بدعوى الطائفية وتحصيل الحقوق، لكنّ هذه الدعاوى في الواقع لا تسوّق إلا لفئات معينة، سرعان ما يتجاوزها المجتمع العراقي المثقف؛ فهنالك ألفة وهنالك بالمقابل حالات سلبية لا بدّ أن تتراجع بانتشار الفكر والثقافة والوعي والعمل الجماعي المشترك المخلص لصالح العراق.

احترام الأديان
حينما كنتُ عام 2011 رئيساً لجامعة الكوفة، رصدتُ الهجوم على إخواننا المسيحيين على سبيل المثال، في بغداد والنجف، فكان أنني دعوت إلى احتضان إخواننا مهما كان الاتجاه أو العرق أو المذهب، لقد استضفت في بيتي إخواناً لنا، وأنا لا أقول إني الوحيد الذي يفعل ذلك، غير أنني عينة على عراق كامل يؤمن بالتنوع الثقافي، وقد تحدثت مع وزير التعليم العالي في هذا، فيا سيدي نحن لا ننظر إلى الدين أو اللون إلا مصدر غنى حقيقي لبلدنا، ودعني أسأل: لماذا نجد في دول الغرب وفي كندا وأمريكا هذه التشاركية الإنسانية الشاملة وهذه الدولة ذات المؤسسات الفاعلة والقانون الذي ينطبق فيسمح بالالتقاء الواحد من أجل الصالح العام؟!.. أعتقد أنّ إشاراتٍ غرست في نفوس أبنائنا وطلبتنا، وإن شاء الله سيكون المستقبل القريب مؤشراً حقيقياً على هذه اللُّحمة العراقية بمختلف أشكالها وهذه الفسيفساء.

الحوار الإنساني
حينما أستمع إلى خطاب سموّ الأمير الحسن بن طلال عن الحوار الإنساني والفكر الواعي والتشارك العربي والعالمي والخروج من عنق الزجاجة نحو التنمية الشاملة، وحينما أقرأ ما يكتبه عن ميثاق المجتمع وحوار الأديان وهذا التقارب المجتمعي والتصالح الإنساني، يملؤني الإعجاب بسموّه وبهذا الفكر النيّر لديكم في الأردن.
في الواقع حينما أنظر إلى الجامعة الأردنية أُكبر فيها أنّ لديها طلبة من ثمانين جنسية، وهذا مؤشر حقيقي على الانفتاح والتخطيط الواعي في الأخذ والعطاء، ولديكم خبرة في هذا المجال.
التعاون المشترك. كيف تنظر لزيارة المالكي وهذا التعاون الاقتصادي بين الأردن والعراق سبباً لأن ينشأ عنه تعاون في الثقافة والتعليم؟!
هي في الحقيقة فرصة كبيرة وفرحة عارمة أن يتم التنسيق والعمل المشترك بين البلدين. في الزيارة المهمة كان التخطيط وكان الالتقاء والتفاهم بشأن قضايا متنوعة على أكثر من صعيد، منها الجانب الاقتصادي المهم.
خرجنا بنتيجة تعاون ومحاولة جادة لإعادة الحب الأوّلي بين العراق والأردن، وهو حب حقيقي عليه أن يتمثل على هيئة التعاون المشترك، وأعتقد أنّ عملية التبادل التجاري ومد أنبوب النفط إنما هو خطوة مهمة في سبيل مشاريع واعدة تعدّ نواة لعمل مشترك. الميثاق الوطني، والتكامل العلمي، والتكامل الاقتصادي، أمور مهمة، وأعتقد أنّ الجميع في الأردن الشقيق يتطلع إلى معافاة العراق وعودة النخب والكفاءات التي رحلت لسبب أو لآخر إلى بلدان العالم.

مثقفو الشتات
يسهم المثقفون العراقيون في الأردن بإضافاتٍ واضحة في الفن والأدب والفكر؛ من واقع الأنشطة الثقافية والإصدارات الأدبية والفنية والعلمية، هل يزداد هذا في ظلّ الملحقية الثقافية أو بدافع ذاتي من المثقف العراقي ذاته؟!
أريد في هذا الحوار أن أشكر كلّ مثقف أردني وقف مع أخيه المثقف العراقي، وقاسمه هم الغربة وتقاسم معه، أيضاً، هم الثقافة والفكر، فالتقى الجميع على المشترك الثقافي. وفي الحقيقة، فإنّ نظرةً على المنتديات الثقافية في الأردن كفيلة بأن تعطي الحقيقة المفرحة في التشارك والتأثير الثقافي في المسرح والشعر والموسيقا والتشكيل على سبيل المثال، ناهيك عن الأجناس الأدبية والفنية الأخرى. أنا أجد في هذا الحضور المشترك ما يؤكد أننا جميعاً مهيئين لأن ننطلق بروح الفريق الواحد. اسمح لي أن أوجه شكري وتقديري لكلّ المؤسسات الثقافية الأردنية التي احتفت بالمثقف والفنان العراقي، وقد حضرت أمسيات وندوات ثقافية في الأردن ورأيت حضورها المشترك العراقي الأردني، كما أن كتاب العراق ضمن الجالية الموجودة في الأردن يكتبون في الصحف الثقافية والملاحق المتنوعة والمجلات، بل إنّ منتديات خاصة بالعراقيين في عمان، وهذا من حسن الطالع أنه يعطينا الصورة الناصعة في القرب الثقافي. في ما يتعلق بالجامعات والتعليم العالي أجد أنّه لزاماً علي أن أشكر المؤسسة التعليمية الأردنية في احتضانها الطالب العراقي وتسهيل ابتعاثه أو دراسته، أو بزيادة عدد المقاعد الدراسية في الدراسات الأولية والعليا، فهو نوع من التواصل الفاعل الذي لا يقل عنه التواصل في المجال الاقتصادي والتجاري، بين البلدين.

الملحقية الثقافية
ضعنا بصورة المنجز الثقافي للملحقية الثقافية العراقية في الأردن؟
نحن دائرة نتبع وزارة التعليم العالي، وواجبنا الحصول على قبول لهم وتصديق شهاداتهم والتواصل مع الأكاديميين هو واجب الملحقية الثقافية. نحن ليس لدينا مركز ثقافي، بل برنامج ثقافي في استضافة الأكاديميين والمترجمين والشعراء والفنانين والأدباء والتنسيق بشأن أنشطة الطلبة العراقيين في الجامعات الأردنية ورعاية أبنائنا المتميزين والمبدعين في نوع من التكريم والتشجيع. عدد طلبتنا العراقيين وصل 4800 طالب في الجامعات الأردنية، وليس لدي عدد لطلبتنا في المدارس الأردنية. برنامجنا الثقافي منظم بما يفيد.

استراتيجية التعليم
لك دراسة قيّمة في (مخرجات الجامعات وضرورة الترصين)؛ ضعنا بالصورة.
يعد الطالب الأساس المادي والمعنوي للعملية الأكاديمية، فهو الشريك والمحور الرئيسي والعنصر الوحيد كمدخل في التعليم الجامعي، ومشاركٌ ضمن العناصر والعمليات التي تجرى في الجامعات، وهو العنصر المهم كأحد نواتج مخرجات التعليم العالي، فضلاً عن دوره في الحاضر والمستقبل، ويصنف على أنه اللبنة الأساسية في بناء المجتمعات والعامل المؤثر في رقيّها وتقدمها وصنع غدها المشرق.
لقد أدى طلبة الدراسات العليا كباحثين في الدول المتقدمة دوراً رئيسا في كثير من التطورات والطفرات العلمية والثقافية والفنية والاجتماعية والمهنية، لذا تعد سلمية وإيجابية العلاقات الطلابية والشبابية وتعزيزها من المهمات الأساسية لجميع الشعوب والأمم، إذ أكدت وجوب رعاية الطلبة وطالبي العلم، لأنهم أمل الغد وإشراق المستقبل. ولكن دورهم هذا لا يمكن له أن يكون فاعلاً في صناعة حاضر كل دولة ومستقبلها إلا إذا كانت العلاقة البيئية بين الطلبة أنفسهم، وبينهم وبين أساتذتهم ومجتمعهم تتسم بالودية والحوار الحضاري البعيد عن التعصب، والمؤمن بمبدأ قبول الآخر وعدم إقصائه أو التجاوز على حقه المشروع. والتعاون معه ضمن الضوابط والقوانين مع الحرص على عدم التجاوز على الأعراف الجامعية والمستوى العلمي آخذين بعين الاعتبار المصلحة العليا للوطن والمواطن هدفاً سامياً.
فكثير من الممارسات السلبية غير الحضارية رصدت في كثير من المجتمعات كالتعصب والاستقطاب العنصري والطائفي أو الحزبي وعقدة الأنا والبحث عن المصلحة الذاتية والمادية والتي كانت سبباً في دمار المجتمعات الإنسانية، ومنها المجتمعات الطلابية، الأمر الذي ينعكس سلباً على مسيرة المجتمع وتطوره، لذا فإن من الواجبات الأساسية الاهتمام بالطلبة كمدخلات الجامعات وضمن المعايير الآتية: وضع خطة واستراتيجية لاختيار الطلبة وقبولهم في الجامعات الأكاديمية أو الدراسات التقنية والمهنية وتوزيعهم على الكليـات والأقسام ذات التخصصات المختلفـة بدون الاعتماد على درجة الامتحان الوزاري فقط كعنصر أساسي في التوزيع، وذلك باضافة عناصر ومعايير أخرى كالاعتماد على درجات ومعدلات الطالب للمرحلتين الدراسية المنتهية وما قبلها في الدراسة الإعدادية أو المهنية ما قبل الجامعية بالإضافة إلى اعتماد درجة امتحان تركز على مؤهلات الطالب وثقافته العامة والعلمية للتخصص الذي يرغب بالانخراط به في الجامعة.
واعتماد أحد أهداف الجامعات في الاستثمار بالإنسان العراقي وتمكينه ليكون قادراً على تحقيق ذاته وتطوير مداركه وقدراته وتعميق فهمه لمسؤولياته الاجتماعية والثقافية والإنسانية والعلمية وانتمائه الوطني.
والتأكد من انخراط الطالب إيجابياً في العملية التعليمية والتعلمية، أي اعتماد التعلم الفعّال كوظيفة أساسية للطالب مع تقرير روح المواطنة والانتماء الحقيقي للمؤسسة التعليمية المنتمي لها والحفاظ على ممتلكاتها، والتي يجب أن تكون ذات مبانٍ متطورة وملائمة للبيئة التعلمية والتعزيز بالمكتبات الورقية الالكترونية المحدثة والقاعات المزودة بأجهزة العرض والاستقبال للصورة والصوت والمختبرات ذات الأثاث والأجهزة التعليمية الرصينة والتي يجب أن تحدّث باستمرار، وتشجيع اهتمام الطالب بضرورة إيمانه بأن رقيّه وتقدمه علمياً سيرفع من شأنها وسمعتها علمياً ودولياً والذي يصب في رفعة ورقي بلده ووطنه. وضرورة الإشارة إلى جميع تعاليم الأديان السماوية وسننها التي تؤكد على شرعية التنافس الشريف مع وجوب التسامح والعفو والعمل الجاد والمخلص بين الشباب لما فيه خير الأمة والمجتمع.
وتفعيل النشاطات اللاصفية لإشغال أوقات فراغ الطلبة خلال أوقات الدوام أو ساعات مابعد الدوام الرسمي كالنشاطات الثقافية والرياضية والفنية لتوسيع مدارك وآفاق الطالب ولتعزيز انتمائه ومحبته للمؤسسة التعلمية المنتمي إليها، وتعزيز العلاقات الإيجابية مابين شرائح الطلبة.

البحث