مسـارات التعليم العالـي...إخفاقات وآمـــال
أ.د.عبدالرزاق عبدالجليل العيسى
تمتاز الجامعات العالميةالمتقدمة والمرموقة بالنجاح بمستوى تعليمها وجودة مخرجاتها من الطلبة وخدمتها الانسانية بنتاجها البحثي وابتكاراتها في مجال خدمة الانسان ورفاهيته تقنياً وصحياً وبيئياً واقتصادياً واجتماعياً . وقد شهد التعليم العالي العراقي في العقد الاول من القرن الماضي افضل ثلاث كليات في عالمنا الشرقي العربي الاسلامي وهي دار المعلمين العالية وكلية الحقوق وكلية الطب . وفي الخمسينيات من القرن نفسه عرفت جامعة بغداد ,التي استحدثت عام 1958, بسوربون العراق وكامبردجه وتحدت جامعة بيروت الامريكية وتفوقت على جامعة فؤاد الاول التي عرفت بجامعة القاهرة لاحقاً على الرغم من حداثة جامعة بغداد . لقد كانت من ضمن ثمانية عشر جامعة عربيا والان عدد الجامعات الرسمية والاهلية العراقية قارب الخمسين قياسا لعدد الجامعات العربية الذي تجاوز الستمائة واليوم يعاني التعليم العالي والبحث العلمي كثيرا من المشاكل والتخلف قياساً مقارنة بالدول المتقدمة بسبب من التراكمات السياسية والحروب العشوائية وعسكرة الدولة ولثلاثة عقود متتالية من الزمن ,ويمكن تحديد بدايات التراجع بالظواهر السلبية الاتية :
1.الغاء كليات التربية في السبعينات من القرن الماضي وثم اعادة فتحها في بداية الثمانينات وتحديد القبول على
الطلبة المنتمين لحزب الحكومة بغض النظر عن مؤهلاتهم العلمية وسلوكهم التربوي.
2.ظاهرة الاستثناءات : مثل منح الاستثناءات في القبول في الجامعات للدراسات الاولية والعليا بغض النظر عن الكفاءة والمؤهلات العلمية .
3.الفئوية: كحصر البعثات والمنح الدراسية لفئات قبلية او قومية او طائفية بشروط معينة بغض النظر عن المؤهلات العلمية والكفاءة .
4.عسكرة الدولة : الامر الذي دفع بالطلبة بتفضيل الرسوب على التخرج والتشبث هرباً من جحيم الالتحاق بالخدمة العسكرية .
5.هجرة العقول : مثل هجرة اعداد كبيرة من العلماء والاساتذة بحثاً عن حياة كريمة ومقاومة شظف العيش في بلدان المهجر .
6.الانقطاع عن العالم الخارجي: فقد تسببت السياسات المتهورة للنظام السابق عزلة غير مسبوقة للجامعات العراقية عن التقدم العالمي وعدم التواصل مع مؤسساته العلمية وحضور المؤتمرات العالمية بدءا من عقد الثمانينات اذ حصلت القطيعة المفتعلة بين مؤسسات التعليم العالي والعالم الخارجي واصبح من الصعب حضور مؤتمر علمي أو دورة تدريبية خارج العراق ويطلب من كل من يرغب بالسفر خارج العراق لاي مشاركة علمية ان يمليء سبعة استمارات للتوثيق الامني لذا عزف الكثير عن السفر .
7. عدم توفير الموارد المالية لشراء الكتب المنهجية والمصادر والاجهزة المختبرية والمستلزمات الدراسية .
8. تسيس التعليم: مثل دس العناصر الامنية والاستخباراتية في قاعات الدرس لرصد حديث الاساتذة والطلبة واعتقال من يشك في معارضته للنظام وتخصيص ساعات لدراسة افكار حزب البعث وما يسمى بدرس الثقافة القومية , واشغال الطلبة بموضوعات خارج تخصصاتهم .واقتصار استعمال اجهزة الحاسوب على دوائر الدولة فقط و بموافقات امنية وانعدام توفر خدمات الانترنيت لغاية 2003 .
اضافة الى عوامل كثيرة اخرى اخرت خطوات التعليم العالي الامر الذي ظهرت نتائجه بوضوح في تراجع المستوى العلمي للجامعات ورداءة مخرجاتها وعدم ظهور معظمها في تسلسلات التصنيفات العالمية .
لقد اعتمد معظم برامج التعليم العالي العراقية منذ بداياتها في العشرينات من القرن الماضي على الاسس والقواعد والنظم المعتمدة في الجامعات البريطانية . ويحصل التطور والتغيير والتحديث في تلك البرامج باستمرار من خلال التواصل المستمر لمصادرها بآليات مختلفة واهمها الطلبة المبتعثون في الدراسات الاولية والعليا وما يتوقع منهم ان يحملوا من علوم بعد عودتهم التي كانت تعزز بالتواصل فيما بعد بالكثير من التسهيلات التي يحصل عليها منتسبو الجامعات العراقية في حينها عند رغبتهم بالسفر خلال العطلة الصيفية كمنحهم رواتب العطلة المجزية مقدما التي تمكنهم من السياحة العلمية في البلدان المتقدمة , لذلك كانت نزهة تدريسيي الجامعات خلال العطلة الصيفية ونقاهته في البلد الذي درس فيه وتواصله مع الجامعة التي اكمل دراسته فيها والتي تعتبر اهم عوامل التجديد في طرائق التدريس والمناهج العلمية والاطلاع على الاصدارات الجديدة من الكتب العلمية والبحوث الحديثة . لان عملية الابتعاث للدراسات اعتمدت اساسا على ضوابط رصينة واقتصرت على الطلبة المتميزين من ذوي الدرجات والمعدلات العالية عدا من كان يدرس على حساب عائلته او حسابه الخاص اذ لا تمانع الوزارات المعنية على دراسته.
على اية حال في مرحلتا اليوم وبعد التراجع الذي حصل في منظومة التعليم العالي بودي أن اذكر بفلسفة التعليم العالي وعلى أيّ اسس يجب أن تبنى جامعاتنا وعلى وفق أي خطط استراتيجية ينبغي ان تدار وتحرك وماذا يجب ان يرسم لمسارها التطوري . فالتعليم العالي جزء من كل , واستنباط اهدافه على ضوء الفلسفة العامة للدولة وحاجة المجتمع , وبناء فلسفتها الخاصة تتولد من طبيعة النظام الاجتماعي والوعي الثقافي للمجتمع , فإذا كان الوعي التربوي والثقافي والالتزام بالقوانين والضوابط والنظام في المجتمع مبنيا بشكل سليم ستكون فلسفة التعليم سليمة , واذا كان متردياً ومتدهوراً تردى التعليم بدوره .
ان مسار تصحيح التعليم يجب أن يبدأ باصلاح التعليم الاساسي ,وما اقصد به صنع المعلم, وبعدها التخطيط لتعليم جامعي يعتمد على الايمان بالعلاقة الوطيدة بين العلوم الطبيعية الصرفة والعلوم التطبيقية والانسانية وهي فلسفة العلم التي ستعمق الوعي بالمبادىء الجامعة للعلوم وربطها بالوعي الاجتماعي والتثقيف المستمر على احترام جميع التخصصات العلمية والانسانية وضرورة كل منها على أن يطغي عليها طابع الحداثة والتجديد . ان اي فجوة بين العلوم الصرفة والانسانية سيؤدي الى اساءة توجيه العلم , وستكون نتائجه سلبية على المجتمع , والغاء لانسانيته , وستكون عواقبه وخيمة على التعليم الجامعي الذي يجب أن يتميز بفلسفة تربوية واعيه بالرابط الفلسفي بين العلم الطبيعي والانساني بين التقريري والمعياري , بين العلمي والاخلاقي .
ولعل واحدا من اهم اسباب التراجع في البيئة العلمية والاكاديمية العراقية هو غياب الوعي والانسجام بين الرؤيا العلمية والاخلاقية. ان انهيار المجال المعياري الذي يسوغ القيم الاخلاقية في الذهن ويوصلها بالمنجز العلمي , اضعف من سلطتها الذهنية , فجعل القيم مفككة بين الواقع والممارسات اليومية . ومن هنا جاءت الاهمية في ربط التعليم الجامعي بفلسفة تربوية اخلاقية وضرورة اختيار الكوادر التدريسية في الجامعات بدقة وليس بالضرورة تعيين كل حامل للشهادة العليا في الجامعات وانما يجب ان يخضع لاختبارات تعتمد الايمان بفسلفة العلم والاخلاق التربوية والوطنية الحقة ,فضلا عن الامتلاء العلمي في مجال تخصصه ومواكبته للحداثة والتجديد .
وانطلاقا من هذا المبدأ كانت تجربتنا في جامعة الكوفة عند استحداث كلية التربية الاساسية من خلال اختيارنا الدقيق لمسوؤلية عمادتها واداريها وتدريسيها من العناصر الكفوءة علمياً وتربوياً لايماننا بضرورة الاهتمام بالكوادر التربوية , التي ستساهم في اعداد جيل مستقبل العراق , والقادرة على الربط العلمي بالمعنوي والاخلاقي والمؤمنة بمبادىء فلسفة العلم المتحركة مع تطور العلم نفسه . ومن خلال متابعتي لطلبة تلك الكلية الفتية وهم في عامهم الاول حيث اليأس يشاهد على وجوههم لظنهم بمجهولية مستقبلهم كمعلمين ولكن بفضل متابعة ادارة الكلية وتدريسيها تمكنوا من تغيير تفكيرهم بعد اشهر ليصبحوا فخورين بمستقبلهم ومتميزين بعلميتهم . لقد كانت رؤيتهم تفعيل كل من العقل والضمير وعدم التنصل من المسؤولية وضرورة تفعيل الفضاء العام لخدمة الصالح العام ليكون مردوده الايجابي المستقبلي للجميع وبدون استثناء ولجميع المواطنين عندها سيكون لدينا مؤسسات تربوية عالية الاداء جيدة المخرجات .
الاستراتيجية والتخطيط :
وعلى الرغم من التحديات الهائلة التي تواجهها الجامعات العراقية في عصر العولمة يبقى من الضروري السعي لوضع الخطط الاستراتيجية للوصول الى العالمية ومعاصرة النظام التعليمي في مختلف مستوياته والايمان بان المستقبل هو لاقتصاد المعرفة المرتبط بتكنولوجيا المعلومات.ان وضع الاستراتيجيات ضروري جدا ولكن يجب ان يقترن بالابداع والذاتية والجهود الفردية وتوظيف الملكات والمهارات الخاصة والادوات التخصصية والفكرية والحضارية واتخاذ خطوات الغير,كخارطة طريق, من الناجحين لمن يتصدى لادارة أي قطاع في التعليم العالي.واهم المحاور التي تتركز عليها استراتيجيات التعليم العالي هي :-
1- وضع اليات ومعايير للقبول المركزي لضمان جودة مدخلات الجامعات وعدم الاعتماد على تقييم المهارات العلمية لخريجي الاعداديات على الامتحان الوزاري فقط .
2- منح الاولوية للتعليم التقني والمهني ,في المرحلة الحالية, في قبول النسبة الاكثر من الطلبة بعد انهائهم الدراسة الثانوية , باعتبار التعليم الذي تتطلبه المرحلة ولحاجة السوق والمجتمع , وتحدد بفترة زمنية امدها خمس سنوات كخطة اولية وتناقش لاحقا بعد معرفة مؤشرات نجاحها .
3- ادخال التكنولوجيا الالكترونية في جميع المفاصل والعمليات في التعليم الاولي والعالي والجامعات وتدريب جميع كوادرها في مجالات البحث العلمي والنشر والتعليم لجعل التدريسي بارعا باستخدام التكنولوجيا الرقمية والتعليم الافتراضي والتعليم عن بعد والتعليم الالكتروني والجامعة الالكترونية وتوفير المكتبات الالكترونية والورقية في جميع الجامعات وربطها ببعضها بالاضافة لربطها جميعا بمكتبات عالمية او قواعد معلومات عالمية .
4- استحداث الكليات والاقسام ذات التخصصات الملائمة لحاجة السوق او المجتمع وتاهيل خريجيها علميا وعمليا لتفادي مشكلة بطالة مخرجات التعليم العالي .
5- تطوير المناهج وتحديثها تماشيا مع القفزات العالمية في برامج التربية والتعليم العالي .
6- اعتماد برامج المراكز العالمية التخصصية في طرائق التدريس وتاهيل مجاميع محددة من التدريسين في كل تخصص ليكونوا مدربين لزملائهم ويتم اعادة اعدادهم وتأهيلهم واختبارهم كل سنتين .
7- اعتماد الضوابط المعتمدة عالميا لفتح الكليات والاقسام العلمية وتفعيل برامج الجودة وتطبيقها ومتابعتها في جميع مؤسسات التعليم العالي وتفعيل برامج التغذية الراجعة لتقييم الجهات التنفيذية واعادة التقييم بين فترة واخرى .
8- اعتماد شعار التدريسي الباحث للكوادر التدريسية في مؤسسات التعليم العالي.
9- اعتماد البحوث التطبيقية الوطنية الهادفة للاساتذة وطلبة الدراسات العليا داخل الجامعات العراقية ولبعض المبتعثين الدارسين خارج العراق .
10- اختيار القيادات المهنية لادارة الجامعة من ذوي الخبرة والتحمس للتغيير والمؤمن باستقلالية الجامعة وان تكون السنة الاولى في عمله كتجربة لاستمراره في العمل او تنحيته .
11- اعتماد التعيين بالعقود وليس بالتعيين الدائم لمنتسبي التعليم العالي من تدريسين وكوادر ولغاية خمس سنوات للتاكد من كفاءتهم وتعاملهم التربوي وعلميتهم ووطنيتهم.
12- تطبيق الضوابط والقوانين بكل دقة ومصداقية وعلى جميع منتسبي الجامعات وكذلك التوصية للعمل بها في مؤسسات وزارة التربية لضمان جودة مدخلات التعليم العالي وعندها سنكون قد ضمنا جودة مخرجات التعليم العالي .